الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وَأَقُولُ: لَا مَجَالَ لِلْقَوْلِ بِالْجُرْأَةِ وَلَا بِالْإِدْلَالِ، وَمَا كَانَ هَذَا بِالَّذِي يَخْطُرُ لِلْعَرَبِيِّ الْقُحِّ بِبَالٍ، وَلَا لِلْعَالِمِ الدَّقِيقِ بِمَعَانِي الْمُفْرَدَاتِ وَأَسَالِيبِ الْمَقَالِ، وَسَبَبُهُ كَلِمَةُ الْفِتْنَةِ فَقَدِ اشْتُهِرَ مِنْ عَهْدٍ بَعِيدٍ فِيمَا أَظُنُّ أَنَّ مَعْنَاهَا إِغْرَاءُ الشَّرِّ بَيْنَ النَّاسِ، وَأَرَاهُمْ يَتَنَاقَلُونَ اسْتِعْمَالَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} (2: 191) بِهَذَا الْمَعْنَى، وَلَهُ أَصْلٌ فِي اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ؛ فَإِنَّهَا تُطْلَقُ عَلَى الْحَرْبِ، وَيُوَصَفُ الشَّيْطَانُ بِالْفَتَّانِ، وَلَكِنْ هَذَا وَذَاكَ مِنَ الْمَعَانِي الْفَرْعِيَّةِ لِهَذِهِ الْمَادَّةِ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهَا الْأَصْلِيُّ الَّذِي تَفَرَّعَا هُمَا وَأَمْثَالُهُمَا وَأَضْدَادُهُمَا مِنْهُ- الِامْتِحَانُ وَالِاخْتِبَارُ وَلاسيما الشَّاقَّ، الَّذِي يَظْهَرُ بِهِ جَيِّدُ الشَّيْءِ أَوِ الشَّخْصِ مِنْ رَدِيئِهِ، كَعَرْضِ الذَّهَبِ عَلَى النَّارِ: لِتَصْفِيَةِ الْغِشِّ مِنَ النُّضَارِ، وَمِثْلُهُ الْفِضَّةُ، بَلْ كُلُّ مَا أُدْخِلَ النَّارَ يُسَمَّى مَفْتُونًا، كَمَا يُقَالُ، دِينَارٌ أَوْ دِرْهَمٌ مَفْتُونٌ، وَيُسَمَّى حَجَرُ الصَّائِغِ الْفَتَّانَةَ، وَقَدْ وَرَدَ تَسْمِيَةُ الْمَلَكَيْنِ اللَّذَيْنِ يَمْتَحِنَانِ النَّاسَ عَقِبَ الْمَوْتِ بَفَتَّانِيِ الْقَبْرِ، وَفَسَّرُوا فِتْنَةَ الْمَمَاتِ وَفِتْنَةَ الْقَبْرِ بِسُؤَالِ الْمَلَكَيْنِ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} (8: 28) أَيِ: اخْتِبَارٌ لَكُمْ يَتَبَيَّنُ بِهِمَا قَدْرُ وُقُوفِكُمْ عِنْدَ الْحَقِّ، وَالْتِزَامِكُمُ الْكَسْبَ الْحَلَّالَ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} (21: 35).وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الْفَتْنَ وَالْفُتُونَ مَصْدَرَيْ فَتَنَ مَعْنَاهُمَا الِابْتِلَاءُ لِلِاخْتِبَارِ وَظُهُورِ حَقِيقَةِ حَالِ الْمَفْتُونِينَ أَوْ لِتَصْفِيَتِهِمْ وَتَمْحِيصِهِمْ، وَمِنَ الْأَوَّلِ: قَوْلُهُ تَعَالَى لِمُوسَى فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ: {إِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} (20: 85) فَقَوْلُهُ عليه السلام لِرَبِّهِ: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ رَبِّهِ لَهُ: فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ فَلَا جُرْأَةَ فِيهَا وَلَا إِدْلَالَ، دَعْ مَا يَرُدُّ هَذِهِ الدَّعْوَى مِنْ مُنَافَاتِهَا لِمَوْقِفِ التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ- وَمِنَ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى لَهُ فِي قِصَّتِهِ مِنْ سُورَةِ طَه: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} (20: 40) أَيِ: اصْطَفَيْنَاكَ مِنَ الشَّوَائِبِ حَتَّى صِرْتَ أَهْلًا لِاصْطِنَاعِنَا وَرِسَالَتِنَا، وَتَقَدَّمَ تَحْقِيقُ هَذَا اللَّفْظِ مِنْ قَبْلُ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ أَيْ: وَأَثْبِتْ وَأَوْجِبْ لَنَا بِرَحْمَتِكَ وَفَضْلِكَ حَيَاةً حَسَنَةً فِي هَذِهِ الدُّنْيَا مِنَ الْعَافِيَةِ وَبَسْطِ الرِّزْقِ، وَعِزِّ الِاسْتِقْلَالِ وَالْمُلْكِ، وَالتَّوْفِيقُ لِلطَّاعَةِ، وَمَثُوبَةً حَسَنَةً فِي الْآخِرَةِ بِدُخُولِ جَنَّتِكَ وَنِيلِ رِضْوَانِكَ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِيمَا عَلَّمَنَا مِنْ دُعَائِهِ: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً} (2: 201) فَإِنْ ثَمَرَةَ دِينِ اللهِ عَلَى أَلْسِنَةِ جَمِيعِ رُسُلِهِ سَعَادَةُ الدَّارَيْنِ: الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ. اهـ.
وقال الرَّاعي: [الطويل] وقال الفرزدق: [الطويل] وهذا النوعُ مقصورٌ على السَّماعِ، حصرهُ النحاة في ألفاظ، وهي: اختار وأمَرَ.كقوله: [البسيط] واسْتَغْفَرَ، كقوله: [البسيط] وسَمَّى؛ كقوله: سَمَّيْتُ ابني بِزَيْدٍ، وإن شِئْتَ: زَيْدًا، ودَعَا بمعناه؛ قال: [الطويل] وكَنَى؛ تقولُ: كَنَيْتُه بفلانٍ، وإن شئت: فلانًا.وصَدَقَ قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ} [آل عمران: 152]، وزَوَّجَ؛ قال تعالى: {زَوَّجْنَاكَهَا}.ولم يزد أبُو حيَّان عليها.ومنها أيضًا: حدَّث ونَبَّأ وأخْبَرَ وخَبَّرَ إذا لم تُضُمَّنْ معنى أعْلَمَ.قال تعالى: {مَنْ أَنبَأَكَ هذا} [التحريم: 3]؛ وقال: {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ} [مريم: 3].وتقول حدَّثْتُكَ بكذا، وإن شئت: كذا؛ قال: [الطويل] و{قومه} مفعولٌ ثانٍ على أوَّلِهِمَا، والتقديرُ: واختار موسى سبعين رجلًا من قومه، ونقل أبُو البقاءِ عن بعضهم أنَّ {قَومَهُ} مفعول أول، و{سَبْعِينَ} بدلٌ، أي: بدل بعض من كل، ثم قال: وأرى أنَّ البدل جائزٌ على ضَعْفٍ، وأنَّ التقدير: سَبْعِينَ رجلًا منهم.قال شهابُ الدِّين: إنَّما كان ممتنعًا أو ضعيفًا؛ لأنَّ فيه حذف شيئين.أحدهما: المختار منه؛ فإنَّهُ لابد للاختيار من مختارٍ، ومختار منه، وعلى البدل إنَّما ذُكِر المختارُ دون المختار منه.والثاني: أنَّه لابد من رابط بين البدل والمبدل منه، وهو مِنْهُمْ كما قدره أبُو البقاء، وأيضًا فإنَّ البدل في نيَّةِ الطَّرح.قال ابْنُ الخطيبِ: وعندي فيه وجه آخر وهو أن يكون التقدير: واختار موسى قومه لميقاتنا، وأراد بـ {قَوْمَهُ} السبعين المعتبرين منهم؛ إطلاقًا لاسم الجنس على ما هو المقصود منه.وقوله سَبْعينَ رجلًا عطف بيانٍ؛ وعلى هذا فلا حاجةَ إلى ما ذكروه من التكلُّفات.فصل:الاختيار: افتعالٌ من لفظ الخير كالمصطفى من الصفوة.يقال: اختار الشَّيء إذا أخذ خيره وخياره، وأصل اختارَ: اختير، فتحرّكت الياءُ وانفتح ما قبلها فقلبت ألفًا نحو: بَاعَ: ولذلك استوى لفظ الفاعل والمفعول فقيل فيهما مختار، والأصل مختيِر ومختَير فقلبت الياء فيهما ألفًا.قوله: {لميقاتِنَا} متعلقٌ بـ {اختيارَ} أي: لأجل ميقاتنا، ويجوز أن يكون معناها الاختصاصَ أي: اختارهم مخصصًا بهم الميقات، كقولك: اختر لك كذا.قوله: {لَوْ شِئْتَ} مفعلوُ المشيئة محذوف، أي: لو شئت إهلكانا، و{أهلكْتَهُم} جواب {لَوْ} والأكثر الإتيانُ باللاَّم في هذا النحو ولذلك لم يأتِ مجردًا منها إلاَّ هنا وفي قوله: {أَن لَّوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ} [الأعراف: 100] وفي قوله: {يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ} [الواقعة: 70].ومعنى من قبل أي قبل الاختيار، وأخذ الرَّجفة.وقوله: {وإيَّايَ} قد يتعلَّقُ به من يرى جواز انفصال الضمير مع القُدْرِةِ على اتصاله، إذ كان يمكن أن يقال: أهلكتنا.وهو تعلُّقٌّ واهٍ جدًّا، لأنَّ مقصوده صلى الله عليه وسلم التنصيص على هلاك كُلٍّ على حده تعظيمًا للأمر، وأيضًا فإنَّ موسى لَمْ يتعاط ما يقتضي إهلاكهُ، بخلاف قومه.وإنَّما قال ذلك تسليمًا منه لربِّه، فعطف ضميرَه تنبيهًا على ذلك، وقد تقم نظيرُ ذلك في قوله: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ} [النساء: 131] وقوله: {يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ} [الممتحنة: 1].قوله: {أتُهْلِكُنَا} يجوزُ فيه أن يكون على بابه أي: أتَعْمُّنَا بالإهلاك أم تخصُّ به السفهاء مِنَّا؟ ويجوز أن يكون بمعنى النَّفي، أي: ما تُهْلك مَنْ لَمْ يُذْنِبْ بذنب غيره، قاله ابنُ الأنباري.قال وهو كقولك: أتهينُ من يكرمك؟ وعن المُبرِّدِ هو سؤالُ استعطاف ومِنَّا في محل نصب على الحال من السُّفَهَاء ويجوز أن يكون للبيان. اهـ. باختصار.
|